كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن الذي أرهق الاستعمار من الإسلام طاقة الإيمان والقتال في سبيله ولذلك جاء ميزرا غلام أحمد وحاول أن يضعف القدرة على الجهاد عند المسلمين، فقال: لقد جئت لكم لألغي الجهاد من العقيدة الإسلامية. وجرؤ ميزرا غلام أحمد، وأعلن إلغاء القتال. والحق يقول في كتابه الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].
وسبحانه بقدرته يمهل ولا يهمل. وجاء وباء الكوليرا في الهند سنة 1908 ليقضي على غلام أحمد وينهي تأكيدًا لقوله الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وظهر أيضًا في فارس وهي موطن سلمان الفارسي مَن ادعى لنفسه النبوة، وكان من الذكاء بحيث حاول التسلل إلى الإسلام؛ لينقلب عليه من بعد ذلك، قال الرجل: أنا الباب ومن بعدي سيأتي المهدي.
وعندما سأله الناس: وماذا تحمل من منهج؟ أجاب: جئت لأخفف عنكم بعض التكاليف؛ لأن الإسلام صار بتكاليفه لا يناسب العصر. واتبعه أناس، وثار عليه أناس. ومن اتبعوه، ذهبوا إليه بغية تخفيف المنهج، ومن ثاروا عليه كانوا من القوم الذين يحبهم الله ويحبونه، وجاءوا له بالعلماء يناقشونه ويحاجونه فاعترف بأنه مخطئ وأعلن التوبة في المسجد الكبير. وعند ذلك تركه الناس.
لكن هذا الرجل وجد من يلتقطه ليعيده إلى ضلاله وتضليله، التقطه قنصل روسيا في فارس، وهيأ له ملجأ، واوعز إليه أن يعلن أن توبته إنما كانت هربًا من القتل. واستطاع هذا الباب، واسمه علي محمد الشيرازي أن ينال دعاية واسعة وخاصة بعد أن انضمت إلى دعوته فتاة اسمها «قرة العين» وكانوا يلقبونها بالطاهرة. ووقفت لتخطب خطبة في الناس.
ومن يقرأ تلك الخطبة يعرف إلى أي انحلال كان يدعو ذلك الباب.
وأعلنت هذه المرأة أن الإسلام قد انقضت مدته كدين، وأن الباب قد اختفى لفترة؛ لأنه في انتظار شرع جديد، وأن العالم يمر بفترة انتقال، وصار ينزل المنهج الجديد على الباب. وقالت تلك «الطاهرة»: إنّ التشريع المختص بالمرأة، والذي جاء إلى الباب هو: «المرأة زهرة خُلِقَت لتُشَمّ ولِتُضَمّ»... «فلا يمنع ولا يُحَدّ شامّها ولا ضامّها».
وما دامت المرأة زهرة إذن فهي تجنَى وتقطَف وإلى الأحباب تُهَدى وتتحف.. إلى أن تقول في نهاية خطابها: لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم!
ومن يرغب في أن يعرف مسلسل الفضائح الخلقية التي جاءت في خطاب «قرة العين» تلك فليقرأ كتاب «نقطة الكاف» للباب الكاشاني طبعة لندن صفحة 154. هذا ما جاء به الباب من بعد أن أعلن إلغاء الإسلام:
لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم فإنه الآن لا منع ولا حد، خذوا حظكم من الحياة، فإنه ليس بعد الممات شيء. وهذه خلاصة الانحلال الذي جاء به هذا المدعو بالباب، لقد أعلن أنه لا حساب ولا يوم آخر، وأن المرأة عرضها مشاع تضم وتشم. والغريب أن بعضًا من المتزوجين قد اتبعوه. وقالوا عن أنفسهم: إنهم متدينون، لقد أخذوا ظاهر الأمر واعتبروا الفسوق الذي جاء به هذا الباب وأسموه دينا بعد أن سهل لهم بتعاليمه الفساد، فأخذوا الانحلال عن التكاليف، وادعو أن ذلك دين!
هكذا أراد خصوم الإسلام للإسلام. وقنصل روسيا القيصرية هو الذي شجع هذا الرجل وحماه في عام واحد وستين ومائتين بعد الألف من الهجرة. وبرغم ذلك حكم أهل فارس بإعدامه بعد موجة السخط العارم، ولم يستطع أن ينقذه أحد، وتم إعدامه فعلًا. والذين قرأوا أقواله لحظة الإعدام عرفوا كيف أنه تذلل وخضع وبكى. ولو كان مبعوثًا بحق من عند الله لما تذلل وخضع وطلب النجاة. ولامتلأ بالسرور والحبور؛ لأنه ذاهب إلى الله.
لقد عرف هذا الرجل الدجال إلى أي عقاب سيذهب؛ لذلك بكى واسترحم. ولما قتل الباب، أعلن واحد من رجاله وهو ميرزا حسين أن الكتاب الذي جاء به الباب كتاب كاذب، وكان اسمه «البيان». وقال ميرزا حسين علي: إنه جاء بكتاب اسمه «الأقدس». كأن المسألة كلها خداع للناس وتبرير الخداع.
ولو رجعنا إلى كتاب يسمونه «بهجة الصدور» لمؤلفه حيدر بن علي البهائي لوجدنا كل الانحرافات الممكنة، فالبهاء يقول: استر ذهبك وذهابك ومذهبك، أي لا تجعل أحدًا يعرف ثروتك، ولا إلى أي مكان تذهب ولا تقل للناس: إنك بهائي حتى لا يقتلوك. واعتبر البهائيون أن القرآن قد انتهت مدته وأن كتاب «الأقدس» هو كتاب فوق القرآن.
ويقرر كتاب «الأقدس» أن القدس لابد أن تكون وطنًا لليهود وأن موسى سيد الرسل جميعًا. ومما يدلنا على أن ذلك الرجل كان صنيعة الاستعمار والصهيونية، أنهم اقاموا له حفل تكريم في بريطانيا ومنحوه وسام الفروسية الإنجليزي؛ لأنه رجل خدم الاستعمار.
ونجد أن شيخنا رشيد رضا الذي نقل لنا تاريخ الإمام محمد عبده يروي قصة لقاء بينه وبين ذلك المدعو «بهاء» في بيروت، وحكى الشيخ رشيد عن الإمام محمد عبده أن هذا البهاء كان يأتي للصلوات الخمس ويصلي الجمعة. وعندما سأله عن تلك المسألة المسماة بالبهائية. أجاب بأنها محاولة للتقريب بين الشيعة وأهل السنة.
وعندما أمرت الدولة العثمانية بمحاكمة ذلك البهاء توسط قنصل روسيا فاكتفوا بنفيه إلى بغداد. وعاش فترة فيها ثم مات وقام الأمر من بعده لابنه عباس المسمى عبد البهاء.
لقد كانت البداية برجل سمى نفسه الباب صاحب كتاب البيان وقال فيه: «ملعون مطرود من يدعي أنه جاء بشريعة بعد شريعتي إلا بعد مرور ألف سنة».
وما أن تمر سبع سنوات حتى جاء رجل ثان يسمي نفسه البهاء، وأعلن أنه جاء بشريعة جديدة، ويعقد الوصية لابنه المسمى «عبد البهاء». ثم يكون الأمر من بعده إلى ابنه المسمى «شوقي أفندي» وكان يقيم بعكّا. هكذا انفضحت أكاذيبهم. ورئيس البهائية الحالي هو يهودي اسمه بترسون.
إذن فالردة عن الإسلام لم تكن نابعة من نفوس المسلمين ولكن مدفوع إليها من خصوم الإسلام الذين يأخذون أي رجل ملحد فيه بعض من الذكاء وينفخون فيه بدعاياتهم حتى يشوهوا دعوة الإسلام. وأقاموا مراكز لمثل هذه الانحرافات في بلجيكا وأمريكا وانجلترا. وحاولوا النفاذ إلى البلاد الإسلامية لينشروا فيها دعوتهم ومبادئهم. وكانوا يأخذون المرأة كنقطة هجوم على الإسلام. ويتهمون الإسلام بأنه يضع المرأة في الحريم، ويحبسها في خيمة وإلى آخر تلك الدعايات التي تشوه تكريم الإسلام للمرأة.
ومن العجيب أني سمعت بأذني من واحدة هي بنت لتلك الحضارة الغربية. تقول: كنت أتمنى أن أكون مسلمة وأمًّا لشاب مسلم.
فعلينا نحن المسلمين ألا ننخدع بتلك الدعايات وتلك المواهب التي تتسلل من باب تخفيف المنهج والمراد بها قتل قيم الإسلام التي تحمي الإنسان وتحترم مشاعره؛ لذلك يجب أن ننتبه إلى دعوات المتسللين إلى مجتمعاتنا بغية هدم ديننا. وعلى الحكومات أن تضرب على أيدي العابثين بدين الله لا أن تترك مسائل الدين لهبّات الأفراد. وكل منا مطالب بأن يرد عن دين الله كل دخيلِ عليه وكل محاولة لوضع أمور ليست من الدين في شيء. وجزى الله قضاء مصر خيرًا حينما تصدوا لمثل هذه الدعوات ووقفوا دفاعًا عن الإسلام لتبيين وإيضاح كل أمر دخيل عليه، فدستور الدولة ينص على أن مصر بلد مسلم، وإن كانت بعض التقنيات في دور التشريع.
وجزى الله قضاء مصر عنا خيرًا، فقد وضحوا تلك المسائل وبينوها. وعرفنا بسلوكهم أن خميرة الإيمان هي التي تحكم سلوك المسلم الحق، وإن تخلت عنه بعض القوانين التي عليه أن يحكم بها.
وكلما حدث حادث من تلك الحوادث لنا أن نتذكر القول الصدق من الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وكل هذه الحركات المناوئة للإسلام تنتهي ويبقى الإسلام قويًا بأبنائه الذين يحبهم الله ويحبونه. هؤلاء الذين وصفهم الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} [المائدة: 54].
ويذيل الحق سبحانه هذا القول الكريم: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
نعم إنه فضل من الله؛ لأنهم ما داموا يحبهم الله ويحبون الله وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين فقد جعلهم سبحانه حملة لواء منهجه لتكون كلمة الله هي العليا. وذلك تفضل من الله. ولنعلم أن الخير لا يعود منا على الله؛ لأنه سبحانه هو واهب كل خير، ولم يأت لنا الخير من بعد خلقنا، ولكن نحن الذين طرأنا على الخير، نحن طرأنا على الأرض، وعلى السماء بما فيهما من كل كنوز الخير، ففي الأرض العناصر والمعادن والقوت، وفي السماء الشمس والقمر والنجوم، وكل ذلك فضل الخالق على المخلوق.
إن فضل الله يؤتيه سبحانه وتعالى من يشاء وتتسع قدرته لكل مطلوب؛ لذلك لا يمن المؤمن على الله بإيمانه، فليس عند الله أزمة في الذين يؤمنون به، وهو قادر على أن يأتي بقوم يحملون دعوته، فإذا ما ارتفعت رأس الباطل فهذا دليل على أن قطافها قد حان؛ لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
فكأن الله حين يندب المؤمنين لمهمة إيمانية فلا يقال: إن المؤمنين إنما يفعلون ذلك لمصلحة ربهم. لا، ولكن ذلك فضل من الله على المؤمنين حين يختارهم لمهمة حمل البلاغ عن الله، ويعود الخير إلى المؤمنين ثمرة مضاعفة. إذن فحين يكون اختيار الله للمؤمن لمهمة إيمانية فهذا فضل من الله على المؤمن. ونعرف أن الفضل هو الأمر الزائد عن العدل فالحق سبحانه وتعالى قد قال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وكل تكليف من الحق للخلق هو فضل من الله؛ لأنك إن نظرت إلى كل تكليف من الحق للخلق لوجدت أن التكليف إنما يعود لصالح الخلق وما دامت الفائدة من التكليف تعود إلى الخلق فليس من المطلوب إذن أن يثاب الخلق المؤمنون المكلفون، لكن الله يأبى أن يكلف خلقه بتكاليف ويذهبون إلى هذه التكاليف بطاعة ومحبة دون أن يجازيهم على ذلك بحسن الثواب.
ولهذا نجد الحق يقول: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17].
المنّة إذن لله حين تفضل على الخلق الذين أطاعوه بحسن حياتهم في إطار تكاليفه الإيمانية، وفوق ذلك هناك الثواب، وهذا هو عين التفضل من الحق على الخلق المؤمنين: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وساعة نسمع «بفضل الله» فلنعلم أن فضل الله لا حدود له. وقد نجد من يقول: ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} [النجم: 39-40].
ونقول: لنفترض أن إنسانًا مات، ونجد الأمر من الخالق سبحانه وتعالى بأن نصلي عليه؛ لندعو له بالرحمة. ودعاؤنا للميت بالرحمة يأتي له بخير أكثر مما فعل هو في حياته، ولولا أن صلاتنا على الميت تثيب الميت وتثيبنا في آن واحد لولا ذلك ما أمرنا الحق بأداء هذه الصلاة.
وقد يقول قائل: هذا الخير الذي يأتي إلى الميت من دعاء المصلين عليه ليس من سعي الميت.
ونقول: إن «اللام» في قوله الحق: {لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39].
هذه اللام تفيد الاستحقاق والملكية. وهو قول كريم يحدد العدل ولا يحدد الفضل. ونضرب مثلًا من حياتنا نحن البشر- ولله المثل الأعلى- تجد السيد يقول للخادم عنده: إن لك أجرًا عندي يساوي مائة جنيه. ثم يجيء السيد في آخر الشهر ويقول للخادم: خذ مائة وخمسين جنيهًا. العدل إذن هو أن يأخذ الخادم أجره وهو مائة جنيه، ولكن الخمسين جنيهًا الزائدة هي الفضل الزائد عن الأجر.
إننا حين يأمرنا الحق سبحانه وتعالى بأن نصلي على الميت فهذا تفضل من الله على الميت وعلينا أيضًا. هذا لون من تفضل الله على خلقه. وسبحانه يجازي كل إنسان بما عمل ويمنحه فوق ذلك، ومن قصّر في شيء من العمل. ويصلي عليه الناس ويدعون له بالرحمة فتفيض رحمة الله على العبد وعلى غيره من العباد. وهذا هو مناط قول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].